تاريخ لبنان في القرون الوسطى

الياس القطار والمنهجية الصارمة في كتابة
(تاريخ لبنان في القرون الوسطى)

اندريه نصّار

أثارت أغلبية المؤلفات التي تناولت تاريخ لبنان في القرون الوسطى جدلاً واسعاً بين المؤرخين. وكلما ظهر كتاب جديد حول تلك الفترة اتسعت مروحة النقاش، وطُرحت علامات الإستفهام. بعضها من منطلق الاحكام المسبقة والايديولوجية، وبعضها الآخر من منطلق علمي منطقي رزين يسعى الى مقاربة الحقيقة المتجردة والمطلقة، علماً بأن هذا الامر صعب التحقيق في ميدان الكتابة التاريخية.

لكن، مهما يكن من أمر، يبقى هدف المؤرخ المنشود ملامسة خيوط الحقيقة بشفافية المفكر العقلاني. ويتم ذلك من خلال التعامل مع النصوص انطلاقاً من فعل التحري الدقيق، وقراءة الأحداث ثم تحليلها وربطها بالاطار العام الذي وقعت فيه، توصلاً الى استخلاص النتائج المرجوة المفضية الى فتح آفاق جديدة أمام البحث التاريخي واستكمال النقص الحاصل في بعض جوانبه.
وتاريخ لبنان في القرون الوسطى على دقته، في مختلف مراحله، يبقى حقلاً مشرَّعاً امام البحث العلمي، ولا سيما الرصين منه. فالخوض فيه والغوص على احداثه، وخصوصاً على عهد الفرنج - الصليبيين (492 - 690هـ/1099 - 1291م)، يتطلب من صاحبه اطلاعاً واسعاً على أكبر قدر ممكن من المصادر المتعلقة بتلك الفترة مباشرة، وهي تتوزع بين المصادر الاسلامية بالدرجة الاولى، والمصادر الأوروبية، سواء بالفرنسية أو الانكليزية القديمة، واللاتينية، الى جانب لغات أخرى، في حال أجادها الباحث، ما يغني قيمة بحثه. وفي هذه الحال يتطرق الى مختلف وجهات النظر والتباين الحاصل بينها حول النقاط والأمور التي يرغب في معالجتها سعياً وراء الحقيقة.
لبنان في القرون الوسطى
لقد نال تاريخ لبنان في القرون الوسطى حظه من الدراسة، ووضعت حوله مؤلفات عديدة، عالج كل واحد منها مرحلة معينة. ولا يزال ميدان البحث مفتوحاً امام دراسات جديدة، آخرها الكتاب الجديد للدكتور الياس القطار (لبنان في القرون الوسطى - الجزء الثاني). وهو يتناول فيه تاريخ لبنان على عهد الفرنج - الصليبيين (492 - 690 هـ/1099 - 1291م)، أي منذ بداية الحملات الصليبية حتى سقوط آخر معقل لهم في عكا على يد السلطان المملوكي الاشرف خليل. طبعاً، قد يتبادر الى الذهن السؤال الآتي: ما الجديد الذي أتى به الدكتور القطار في مولوده الجديد?
للوهلة الأولى، قد يبدو السؤال في محله. ومن حق أي باحث في التاريخ ان يطرحه. لكن هذا قبل الاطلاع على مضمون الكتاب.
صحيح ان بعض الباحثين تطرق الى تاريخ لبنان في ظل الحروب الصليبية، انما من خلال استقراء كيفي لمصادر معينة، واغفال او جهل بمصادر أخرى، ليس بالضرورة ان تكون عربية فقط، سعياً منه الى تشويه الحقيقة والضرب على وتر طائفي لابراز صورة مخالفة للوقائع التاريخية. على ان مهمة المؤرّخ الرصين تبقى ابراز الحقيقة كما يجب أن تكون قدر الامكان.
وقد حاول الدكتور القطار في كتابه التطرق الى الحروب الصليبية من خلال أسبابها فقط، ووقائعها، ونتائجها التي جرت على أرض لبنان الحالي، بكل تجرّد وموضوعية، ومن دون محاباة او تقية. واكتفى بايراد ما حدث خارج لبنان بطريقة مختصرة جداً، ليضع الجزء في الكل فقط. وقد نجح في ذلك.
مضمون الكتاب
وقد استهل القطّار كتابه بمقدمة عامة عرض فيها لأسباب حروب الفرنج - (الصليبية) وظروفها. ثم تطرق الى الاوضاع السياسية - العسكرية، في القسم الاول من الكتاب. وتحدث في الفصل الاول عن الانتصار الفرنجي - الصليبي وفتح المدن اللبنانية بين 1097 - .1124 وانطلق من سير الحملات باتجاه الشرق الى فتح القدس: الحملة الاولى، ثم فتح المدن اللبنانية وتكوين كونتية طرابلس، والاوضاع السياسية من فتح المدن الى محاولات الإسترداد الزنكية: نجاحات للفرنج وصمود وبداية تحد اسلامي متأرجح.
اما الفصل الثاني الذي حمل عنوان (رد فعل المسلمين ومحاولات الاسترداد: من عماد زنكي الى ابنه نور الدين)، فقد تطرق فيه الى الصراعات الاسلامية - الفرنجية لاستعادة بعض المناطق التي احتلها الفرنج، وتوازن القوى الطرفين، ومحاولة نور الدين قلب هذا التوازن من خلال السعي للتوحد مع مصر.
ولم تهدأ وتيرة الصراع الاسلامي - الفرنجي طوال الحكم الزنكي، وهو استمر في عهد خلفائهم الايوبيين، وهو ما عالجه الدكتور القطار في الفصل الثالث بعنوان (مرحلة التوازن الايوبي - الفرنجي، انتصارات صلاح الدين). وقد تحدث فيه عن اخفاقات ونجاحات فرنجية وايوبية متعرجة، والنصر الكبير في معركة حطين سنة 583هـ/1187م وسقوط المدن والقلاع اللبنانية بيد صلاح الدين، ثم احترام الصراع بين الغرب والشرق في عكا.
وفي الفصل الرابع الذي جاء بعنوان (تفكك سلطنة صلاح الدين وامارات الفرنج: حروب أهلية ومعارك صغيرة)، تحدث المؤلف عن زمن انصياع الفرنجي والايوبي، وما اعقبه من هيمنة المانية في الشرق مع الامبراطور فردريك، ثم تشريع المشرق ابوابه للفوضى والغزوات، وخصوصاً قمع الامراء البحتريين وظهور الخوارزمية على مسرح الأحداث، وحملة الملك لويس التاسع والغزو المغولي للمشرق الذي تصدى له المماليك في عين جالوت ووضعوا حداً لتقدمه سنة 658هـ/.1260 ما مهد لظهور الحكم المملوكي.
وبهذا الواقع السياسي الجديد ينهي القسم الاول بالفصل الخامس: (حسم وجود الفرنج: الفتح المملوكي). فتحدث عن دور الظاهر بيبرس (658 - 676 هـ/1260 - 1277 م) في تقليص رقعة وجود الفرنج، ثم دور السلطان المنصور قلاوون وابنه السلطان الاشرف خليل في انهاء وجود الفرنج.
ولم يقتصر الدكتور القطار في كتابه على الناحية السياسية فحسب، بل خصص الثاني القسم منه للادارة والمجتمع والاقتصاد والثقافة والعمران، أي الشق الحضاري. فتحدث في الفصل الاول عن ادارة الفرنج، اولاً في المناطق التابعة لمملكة القدس اللاتينية، وثانياً في المناطق التابعة لكونتية طرابلس.
وعالج في الفصل الثاني (المجتمع في ظل حكم الفرنج)، فتطرق الى الجاليات الاوروبية والتنظيم المدني - الاجتماعي وخصوصاً في صور. ثم انتقل الى الكلام على السكان المحليين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، والحياة الاقتصادية والاجتماعية في القرية...
وجاء الفصل الثالث بعنوان (الاقتصاد)، وقد انطلق فيه للتحدث عن الزراعة في قصبات قرى صور، وقرى صيدا، الشوف، جزين، بيروت، طرابلس، القرى الواردة في المعاهدات مع الفرنج، القرى العائدة لاقطاع الامراء البحتريين، كما تحدث عن انواع المزروعات، واستثمار الارض ووضع الفلاحين، ومسائل الري والاوقاف. ثم انتقل الى معالجة الصناعات الحرفية التي كانت سائدة في تلك الفترة. وتطرق الى استعادة مدن الساحل مركزها التجاري العالمي، والتبادل التجاري، والدول التجارية، والمرافق والمؤسسات التجارية، والعوامل الطبيعية، من اوبئة وزلازل وغيرها، ونظام الاقطاع، والتملك والواقع الاقتصادي العام.
اما الفصل الرابع فقد خصصه لـ(الأوضاع الثقافية والعمرانية)، وتناول فيه جانب الثقافة، والطب والبيمارستانات، والنشاط الديني، ثم العمران الحربي، اي بناء الحصون والقلاع وفنون القتال، ووصف المدن والبلدات، وأبنية الامراء البحتريين التنوخيين، والعمران الكنسي.
قائمة غنية
ويدرج الدكتور القطار قائمة غنية بأهم المصادر والمراجع التي اعتمد عليها. ونسجّل له هنا نقطة مهمة واساسية في مؤلَّفه. فهو لم يكتفِ بالاطلاع على المصادر العربية التقليدية والمراجع الأجنبية للحروب الصليبية فحسب، بل اطلع على أغلبية المصادر العائدة للحروب الصليبية، وخصوصاً المصادر الغربية وهي على نوعين: تلك المدونة باللغة الفرنسية القديمة، من القرن الثاني عشر والثالث عشر، ويعتقد انه استقرأ معظمها، رغم صعوبة فهمها. اما النوع الثاني فيشمل نصوص الحروب الصليبية باللغة اللاتينية، وقد اعتمد لقراءتها على الترجمات الفرنسية والانكليزية، مع العودة دائماً الى النص اللاتيني للتأكد من صحة التواريخ وأسماء الأمكنة والاعلام.
وقد اعتمد الدكتور القطار في كتابه المنهجية الصارمة التي تميز بها في جميع مؤلفاته وخلال مسيرته التعليمية الطويلة. وهي منهجية تقوم على التعاون مع النصوص المتعددة، في وجهتيها الاسلامية والغربية، واخضاعها للنقد والتحليل، للخروج بنتائج صائبة، بعيداً عن التحيز والميل الى تبنّي وجهة نظر معينة، الا اذا كانت الاقرب الى منطق التصديق والواقعية.
(لبنان في القرون الوسطى - الجزء الثاني)، قد يصح اطلاق كلمة موسوعة عليه، اذ يروي غليل الباحث التاريخي، ويفسح له في المجال للاطلاع على قسم كبير مما يتناول تاريخ لبنان في القرون الوسطى، كما انه يوضح الكثير من النقاط المغلوطة التي دأب مدّعو كتابة التاريخ على ترويجها، وان كان يصح في بعضهم تسمية (كتبة) وليس (مؤرخون)، وخصوصاً في ظل (تفقيس) دراسات اكاديمية وكتب لم يكلّف أصحابها انفسهم عناء البحث والتقميش والقراءة، بل جلّ ما اعتمدوه، للأسف، سرقة المعلومات من مؤلفات سابقة، ونسبتها اليهم، ولا سيما في ما يتعلق بالمصادر والمؤلفات الأجنبية، فاذا ما حاولت قراءة العناوين، كما يدرجها اولئك المدّعون انهم باحثون او مؤلفون، لتعثّر عليك ذلك، فكيف يمكن الصدق ان يتبادر الى ذهنك ليقنعك بأنهم قد قرأوا تلك المؤلفات. الامر من رابع المستحيلات. وقد آن الاوان لوضع حد لهذه الظاهرة المسيئة بحق البحث العلمي

» تعرف على لبنان - 2 - طرابلس
» الصفحة الثقافية للخوري حناكرم
» شروقي فخر لبنان
» بعدك يا لبنان سيد عالدني
» تعرف على لبنان و مناطقه